مجلة زوران-واحة الأدب-23-3-2021
إعداد الأستاذ محمد رياض محمد أبو عريضة لسنة 2020
استطاعت مجلة زوران من خلال بحثها المستمر عن الطاقات الشبابية أن تحصل على البحث الأدبي الذي أعده الأستاذ محمد أبو عريضة في دراسة نفسية عن كآبة الأديب أبي العلاء المعري.
حيث يهدي الباحث هذا البحث المتواضع إلى دكاترته الأفاضل، ومعلميه الكرام، وإلى كُلِّ مَن مّدّ له يد العَوْن والمشورة، وساعده على إتمام هذا البحث، وسأل الله-تعالى- أن يعين كل من كان له دور في انجاز البحث.
وقد تتناول الباحث في هذه الدراسة حياة الشاعر العربي والفيلسوف أبي العلاء المعري، كونه شاعرٌ عباسيّ عُرف وأشتهر بلقب (رهين المحبسين)، وكانت هذه الدراسة نفسيّة، حيث اهتم بالجانب المرضي النفسي الذي عانى منه أبو العلاء المعري في حياته، ألأ وهو الاكتئاب (الكآبة)، ولم تقتصر هذه الدراسة على سيرة حياته فقط بل تناولت بعضاً من أشعاره التي تبيين الأعراض وتظهرها للقارئ، واستندت الدراسة واستدلت بالدراسات النفسية المؤكدة، والحقائق العلمية التي أثبتها علماء النفس المتخصصون في هذا المجال .
وذكر الباحث أن الدارسون تحثوا كثيراً فيما سبق عن الشاعر أبي العلاء المعري، وتناولوا شعره ونثره ودرسوه وتحدثوا عن نظرته التشاؤمية للحياة، وعن فلسفته وحكمته، فكانت هذه الدراسة مغايرةً لما سبقها من الدراسات، وإن كانت مشابهة لها قليلاً، إلا أنها تبين الفرق بين الدراسات السابقة التي تحدثت عن التشاؤم في حياة أبي العلاء المعري وبين هذه الدراسة (الكآبة عند أبي العلاء المعري).
تضمنت الدراسة ثلاثة أبواب :
الباب الأول مكون من فصلين، في الفصل الأول تعريف الكآبة لغةً واصطلاحًا، وفي الفصل الثاني الفرق بين التشاؤم و الاكتئاب (الكآبة) .
الباب الثاني مكون من فصلين، الأول جاء تعريفاً بالشاعر، والثاني تناول سيرة حياة أبي العلاء المعري.
الباب الثالث مكون من فصلين، الأول تحدث عن الكآبة وأسبابها وأظهرها في محطات حياته وبين أعراضها أيضاً من خلال سيرته، والثاني تناول بعض أشعاره اللتي تجلت فيها أعراض الكآبة.
اتبع الباحث المنهج النفسي في هذه الدراسة، فهو يُعدُّ من أفضل المناهج لمثل هذه الدراسات، فهو منهج يهتم بدراسة الشاعر ونفسيته والظروف المحيطة به، ويعرف شخصية الأديب من خلال شعره، وما تتسم به نفسيته من ألم وحزن، وتطبيق نتائج علم النفس على الشخصيات الأدباء ونتائجهم الأدبية، والبحث في أثر البيئة على شخصية الأديب عند التحليل النفسي له .
وبعد إطلاعه على أهم الكتب العلمية المتعلقة بالمرض النفسي والاكتئاب ومعرفة أسبابه وأعراضه، وبعد دراسته للمنهج النفسي وقراءة سيرة حياة أبي العلاء المعري، وبعضٍ من أشعاره، تكون لديه فكرة هذه الدراسة، وقدم لهم ما توصل إليه بعد طول عناء، فما كان من توفيق وصواب فمن الله وحده، وما كان من خطأ وزلل فمنه ومن الشيطان .
الباب الأول : الكآبة
الفصل الاول : الكآبة لغةً واصصطلاحاً
تعريف الكآبة لغةً :
الكآبةُ: تَغَيُّر النَّفْس بالانكسار، مِن شِدَّةِ الهمِّ والـحُزْن، وهو كَئِـيبٌ ومُكْتَئِبٌ
ويقال: ما أَكْـأَبَكَ! والكَـأْباءُ: الـحُزْنُ الشديد، على فَعْلاء
وأَكْـأَبَ: دَخَل في الكَـآبة
ورَمادٌ مُكْتَئِبُ اللَّوْنِ: إِذا ضَرَبَ إِلى السَّواد، كما يكون وجه الكَئِـيبِ .
تعريف الكآبة إصطلاحاً :
الاكتئاب (الكآبة): هو مرض يصيب الذهن والجسم معًا، يجعل المصاب به يشعر بالقنوط المسيطر، والبطء الشديد، ومشاعر التأثم، ويجعله يشعر بالحزن الدائم والنظر للأمور بشكل تشاؤمي، وتجعل الشخص يحب العزلة والأنفراد.
الاكتئاب(الكآبة): هو أحد التقلبات المعتادة للمزاج استجابة لموقف نصادفه في حياتنا يدعو الى الشعور بالحزن والاسى مثل فراق صديق او وفاة أب أو أم أو خسارة مالية أو جسدية .
الفصل الثاني: الفرق بين التشاؤم والاكتئاب(الكآبة).
التشاؤم هو شعور يصيب الإنسان يشعره بالإحباط وأنّ الأمور تسير على غير ما يرام، وقد يكون التشاؤم جزءاً من أعراض الاكتئاب، وقد يكون الشخص طبيعي لا يعاني من الاكتئاب ويمارس حياته بشكل طبيعي جداً، لكن عنده تشاؤم ولا ينظر للأمور بشكل جيد، بل ينظر عليها بشكل سوداوي، ويعد الاكتئاب حالة مرضية، أمّا التشاؤم لا يعد حالة مرضية، لكن يمكن عدُّه عرضاً من أعراض الاكتئاب، إذا كانت هذه الحالة التشاؤمية غالبة عليه وسببها كثرة الاحزان.
ويتمثل الاكتئاب غالباً بعدة أعراض، أهمها:
1- مشاعر من الحزن المستمر .
2- كره الذات، والخجل، والعزلة .
3- الشعور بالوحدة واللامبالاة .
4- النظرة التشؤامية بشكل مستمر.
5- في الحالات الحادة يصبح الفرد ذهانياً، فتظهر لديه مجموعة من الأوهام والهلاوس المزعجة والسوداوية.
1انظر الى كتاب (الاكتئاب) لكوام مكنزي،سبق التعريف به .
2مكنزي(كوام):الاكتئاب.ترجمة زينب منعم،سبق التعريف به.
* مرادفات كآبة: أسًى،إبتئاس،كَرْب،حُزن/وضدها:السرور،البهجة،السعادة.انظر معجم المعاني المرادفة والمتضادة.
*مرادفات تشاؤم:تَطَيُّر،تَعاسَة،نَحَس/وضدها:التفاؤل،التَّيمَن،إستبشار. انظر معجم المعاني المرادفة والمتضادة.
الباب الثاني: أبي العلاء المعري
الفصل الأول: التعريف بالشاعر
اسمه : هو أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري، ويكنى بأبي العلاء.
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان أبو العلاء المعري:هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن [محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان] بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أرقم بن أنور بن أسحم بن النعمان، ويقال له الساطع لجماله، أبن عدي بن عبد غطفان بن عمرو بن بريح بن جذيمة بن تیم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وتيم الله مجتمع تنوخ: من أهل معرة النعمان من بلاد الشام، كان غزير الفضل شائع الذكر وافر العلم غاية في الفهم، عالما حاذقة بالتحو، جيد الشعر جزل الكلام، شهرته تغني عن صفته وفضله ينطق بسجیته.
“ولد بمعرة النعمان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة واعتل علة الجذري التي ذهب فيها بصره سنة سبع وستين وثلاثمائة، وقال الشعر وهو ابن احدى عشرة سنة، ورحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، أقام ببغداد سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى بلده فأقام به ولزم منزله إلى أن مات يوم الجمعة، الثاني من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة في أيام القائم، وكان في آبائه وأعمامه ومن تقدمه من أهله وتاخر عنه من ولد أبيه ونسله فضلاء وقضاة وشعراء”
وفاته: توفي المعري يوم الجمعة 13 ربيع الأول سنة 449 هجري بمعرة النعمان، وعمره 87 سنة، فبكاه الشعراء والأدباء واجتمع على قبره العديد من الأدباء منهم ثمانون شاعرا، وختمت في أسبوع واحد عند هذا القبر مائتا ختمة.
الفصل الثاني: سيرة حياته
وُلِدَ أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنُوخي المعري المعروف ﺑ «أبي العلاءِ المعريِ» بمَعَرة النُّعْمان، نشأ في بيت من بيوت العلم والفضل والأدب؛ فكان أبوه وأمه من ذوي الوجاهة والصلاح.
كان جده لأبيه، سليمان بن أحمد، قاضي المعرة، وكان شاعرًا، أما أبوه فقد جمع بين الشعر والقضاء، وقد تتلمذ أبو العلاء في بداية عمره على يد أبيه الذي علمه القرآن، ولما أظهر الصغير قدرًا كبيرًا من الفطنة والذكاء مضى به والده إلى حلب .
فَقد بصره وهوَ صغير نَتِيجةً لمَرَضِه بالجدري، وكان لا يعرف من الألوان إلا اللون الأحمر، لأنه ارتداه أثناء علاجه من مرض الجدري. وقد تعايش المعري مع وضعه الجديد، وعَدّ فقدان البصر نعمة من النعم التي يحمد الله عليها، فكان يمارس حياته و يلعب الشطرنج، ويشارك أقرانه في المناظرات الأدبيّة، سواءً كانت جديّة أم هزليّة، وترعرع المعري بالمعرّة مسقط رأسه، وتولى والده تعليمه اللغة والنحو وحفظ الحديث النبوي، وانتقل بعد ذلك إلى حلب، وتابع تعليمه النحوي محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، ثمّ ارتحل إلى بغداد، وقابل هناك عبد السلام بن الحسين البصري وتزوّد من علمه و أخَذ علوم القراءات القُرْآنيةِ بإِسْناد عنِ الشيوخ، كمَا تَعلَّمَ الحَدِيثَ في سِن مُبكِّرة حيث درس كلاً من: الحديث، والأدب، والفقه، والشعر، والتفسير، وعلوم اللغة، كما درس النحو .
أقام بوسط بغداد سَنةً وسَبْعةَ أشْهر، إذ جمع عدداً كبيراً من الطلاب الإناث والذكور من أجل الاستماع لمحاضراته عن النحو والشعر والعقلانية، عاد إلى مدينة معرة النعمان، واتخذ قراراً بعد عودته من بغداد بلزوم بيته واعتزال الحياة، والتفرغ للتاليف والتصنيف، وبقي في عزلته هذه حتى مماته.
اجتمعت عوامل عدّة ساهمت في اتخاذ المعري لهذا القرار، ومنها: أنّ طبعه كان ميالاً إلى حبّ الوحدة، وفقده لبصره وهو صغيرٌ، ناهيك أيضاً عن فقده لوالديه في أصعب الأوقات والظروف،( في طريق عودته بلغه خبر وفاة والدته، فحزن عليها حزناً شديداً، وعبّر المعري عن هذا الحزن بشدة في قصائده الشعريّة، وفي معظم رسائله المنثورة، وكانت هذه الأشعار والرسائل خير من عبّر عن الحالة النفسية الصعبة التي كان يعيشها المعري في تلك الفترة)، وما كان يعانيه من فقرٍ شديد، بالإضافة إلى المعاملة السيئة التي تلقّاها من أهل بغداد .
الباب الثالث: الكآبة عند أبي العلاء المعري
الفصل الأول: من خلال سيرة حياته
بدأ أبو العلاء المعري حياته كباقي أفراد جيله ألى أن أصابته الحمى وفقد بصره، من هنا بدأت حياة النقص عنده، والناظر في سيرة حياته يدرك مدى الصعوبات والأحزان التي تعرض لها بدءًا من فقده لبصره ثم وفاة والده، هنا نلحظُ بداية ظهور مسببات الكآبة في حياته ألا وهي الحزن وعقد نقص نفسيته بسيي فقده لبصره , وهذه الأمور ولدت عن النزعة التشاؤمية للحياة , وكما ذكرنا سابقا أن التشاؤم عندما يتطور ويصبح ظاهرة ملازمة لحياة الشخص تؤدي به في وادي الكآبة الموحشة.
وكلما تعمقنا في سيرة حياته نرى مسببات الكآبة أمامنا واضحة كوضوح الشمس، ونراها عندما تعرض للايذاء النفسي في بغداد من الناس. في تلك اللحظة قرر العودة الى بلاده معرة النعمان، الى هنا كان قراراً طبيعياً يمكن أن يتخذه اي شخص لكن النصف الاخر من قراره دل على تطور حالة الكآبة عنده، الا وهو الانعزال والابتعاد عن الناس والبقاء في بيته ومما أهلكه اكثر وجعله ينحدر في ذلك الوادي عندما سمع بخبر وفاة أمه وهو في طريق العودة من بغداد، مما جعله يشعر بالحزن الشديد.
نجمل ما سبق بالدلائل العلمية المثبتة لمسببات الكآبة بما يلي:
1- وفاة او مرض شخص عزيز, (وفاة والديه) .
2- اساءة جسدية او نفسية او عاطفية او جنسية تعرض لها (ايذاء الناس له في بغداد) .
3- مرض طبي مزمن مثل السرطان او الايدز او الالم المزمن او فقد طرف من الاعضاء ؛ وغيرها(فقد بصره) .
4- احداث الحياة الكبرى مثل تبديل كل الاقامة أو الطلاق (انتقاله وسفره) .
5- الحزن الشديد(بسبب ما سبق , الوفاة وفقد البصر وغيره) .
ونُكمل مسببات الكآبة عند أبي العلاء المعري،بالأدلة والدراسات العلمية والعملية :
– “الإحساس بوطأة المشكلات الحضارية سواء كانت مشكلات بيئية أم مشكلات عالمية إنسانية تتعلق بمستقبل البشرية كلها،ومثل هذا الإحساس يقع للمفكرين والفلاسفة وأصحاب الرأي والمشاركين في مسيرة الحضارة حين يجد الواحد منهم أن الطريق ألى الحرية أو الرخاء أو القضاء على العنصرية أو سيادة الأمن موصد أمامه فيصيبه الاكتئاب”1،جميعنا نعرف الفيلسوف أبي العلاء المعري وفلسفته في الحياة،وقد تحدث في شعره عن فوضى الأخلاق عند الناس، واستبداد الحكام، ونجد آثاره الفلسفية والنقدية في شعره خاصةً في (اللزوميات)،هذه النقطة كافية للإستدلال على حال المعري وكآبتهِ .
يربط بعض علماء النفس بين العبقرية و الاكتئاب وفي دراسة أجراها العالم (بوست) على مجموعة من العباقرة في مختلف المجالات كالسياسة و الأدب و الإبداع تبين أن نسبة منهم مصابين بمتلازمة الهوسية الإكتئابية (إضطراب ثنائي القطب)،وهذا النوع يجعل حالة الشخص متأرجحة بين تقلبات مزاجية منها حالة الهوس هي شعور بالسعادة و النشوة والنشاط المبالغ فيها لدرجة ان هناك تطاير للأفكار لديهم و البعض منهم قد يذهب للنوم فقط عدة ساعات، وخلال هذه الفترة ينغمسون في حالة من الإبداع و الكتابة والتأليف،لكن بعد هذه الحالة يصيبهم من جديد حالة الاكتئاب الصعبة الشديدة مما تجعل الشخص غير قادر على تحقيق اي نشاط او هدف، ونلحظ ذلك من خلال حياة أبي العلاء فهو كان يستقبل طلبته في بيته رغم عزلته وينهل عليهم بإبداعه ومؤلفاته حيناً وينعزل عنهم حيناً آخر.
لكن مع هذا فهم جديّون مثابرون وصابرون، وهم أصحاب ضمير حيّ حساس ووجدان مفعم بالإنسانية، ويؤكد علماء النفس أن هذا النوع من الاكتئاب له سبب وراثي، ولعل عائلة أبي العلاء المعري المشهورة بالعلم والحكمة والفلسفة كان يعاني بعضهم من هذا الاكتئاب.
ويرجع الباحث لحياة أبي العلاء المعري مرةً أخرى وأعرض سريعاً الأعراض التي كانت عنده، وتثبت صحة إصابته بالكآبة من خلال هذه الأعراض :
1- كره الذات والنظرة السلبية لها، ويتعدد صوره عند أبي العلاء المعري فقد كره أسمه،ورأى أن من النفاق و الكذب اشتقاق اسمه من الحمد،وايضاً من خلال كرهه لكنيته،لأنه رأى أن من الظلم أن يضاف إلى التصعيد والعلو.
2- حب العزلة و الإنفراد، فقد عَزَلَ أبي العلاء نفسه في بيته منذ عودته من بغداد إلى أن مات .
3- التشاؤم والحزن، وأمثلة هذا كثيرة عند أبي العلاء المعري إلى أن وصل به الحد بعدم إنجاب الأطفال،لأنه يعتبر ذلك جناية عليهم .
4- فقدان الأحساس وعدم الأهتمام بملذات الحياة،وخير دليل على هذا عزوفه عن الوزاج،” عاش المعري بعد اعتزاله زاهداً في الدنيا، معرضاً عن لذاتها، لا يأكل لحم الحيوان حتى قيل أنه لم يأكل اللحم 45 سنة، ولا ما ينتجه من سمن ولبن أو بيض وعسل، ولا يلبس من الثياب إلا الخشن”.
5-الأفكار المشوهة والشعور المستمر بالدونية وجلد الذات، وكان هذا دائم الظهور في سلوكيات أبي العلاء (رفضه للزواج، وصف نفسه بالدونية والنفاق وأفكاره المشوهة مثل الزواج والإنجاب وسلوكيات الطعام الغريبة).
الفصل الثاني :الكآبة في شعر أبي العلاء المعري
1- في كره الذات والنظرة السلبية لها :
– وأَحمَدُ سَمّاني كَبيري وَقَلَّما فَعَلتُ سِوى ما أَستَحِقُّ بِهِ الذَمّا
في هذا البيت تظهر نظرته السلبية لذاته وكرهه اسمه لأنه مشتق من الحمد وهو يرى أن هذا لا يستحقه، وأن ما يستحقه هو الذم .
– دُعيتُ أَبا العَلاءِ وَذاكَ مَينٌ وَلَكِن الصَحيحَ أَبو النُزولِ
وهنا ايضاً تظهر هذه النظرة السلبية لذاته وينظر لنفسه نظرة دونية فهو لا يستحق كنيته من العلو بل يجب أن تكون من الدنو.
2- في العزلة و الإنفراد :
– أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
– لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ
لَقَبَ نفسه برهين المحبسين، أي منزله الذي حَبَسَ نفسه فيه،والعمى الذي منعه من مشاهدة الأشياء ولم يكتفِ بذلك، بل زاد عليها سجن ثالث ألا وهو سجن نفسه الطاهرة في جسده الخبيث، ويعود هنا مرة أخرى وتظهر النظرة السلبية لذاته
3- التشاؤم :
– إِذا لَم يَـكُـن خَـلفـي كَـبـيرٌ يُضيعُهُ
حِـمـامـي وَلا طِـفـلٌ فَـفـيـمَ حَـيـاتي
– وَما العَيشُ إِلّا عِلَّةٌ بُرؤُها الرَدى
فَــخَــلّي سَـبـيـلي أَنـصَـرِف لِطِـيـاتـي
لشدة تشاؤمه يفتخر في هذه الأبيات بأن ليس له ولد يخلفه في هذه الحياة،نظرته التشاؤمية كانت شديدة لدرجة أنه يرى أيضاً أن العقم وعدم الإنجاب خيرونرى ذلك في قوله:
– قد ساءَها العُقْم لا ضَمَّتْ ولا وَلَدتْ
وذاكَ خيرٌ لها لو أُعْطِيَتْ رَشَدا
– ما يأخذُ الموتُ من نَفْسٍ لمنفردٍ
شيئاً سواها إذا ما اغتالَ واحْتَشَدا
– وَمُنْشِد الخير لا تُصْغَى لَهُ أُذُنٌ
فقد ضَلَّ مُذ كانت الدنيا فما نُشِدا
4-عدم الإهتمام بملذات الحياة والإبتعاد عن الزواج :
أكبر دليل على ذلك عدم زواجه وشعره المتكرر حاثاً الشباب لمحاولة الإبتعاد عن الزواج، في قوله:
– نصحتك لا تنكح فإن خفت مأثما ****** فأعرس ولا تُنسل فذلك أحزم
– أظنك من ضعف بلبك غاديا ******** يحلك من عقد الزواج المعزم
وايضاً قوله :
متى تشرك مع امرأة سواها ***** فقد أخطأت في الرأي التريك
فلو يرجى مع الشركاء خير ********* لما كان الإله بلا شريك
وقوله:
من أعجب الأشياء في دهرنا ******** والله لا ناس ولا والِث
اثنان باتا في فراش معا ************** فأصبحا بينهما ثالث
4- الأفكار المشوهة والسلوكات الغير طبيعية :
إمتناعه عن أكل اللحم و الألبان وبعض الأطعمة، وهذا ظاهر من خلال سيرة حياته وفي شعره عندما قال :
مَن لي بِتَركِ الطَعامِ أَجمَعَ إِنَّ ال
أَكلَ ساقَ الوَرى إِلى الغَبَنِ
لا أَفجَعُ الأُمُّ بِالرَضيعِ وَلا
أَشرَكُ هَذا الفَريرَ في اللَبَنِ
أَقتاتُ مِن طَيِّبِ النَباتِ وَهَل
يَسلَمُ عودُ الفَتى مِنَ الأُبَنِ
شَجَّعَ قَلبي عَلى الرَدى رَشَدي
وَالنَفسُ مَجبولَةٌ عَلى الجُبُنِ
ونرى توغل الكآبة في نفس أبي العلاء المعري في قصيدته بعنوان ضحكة القبر
يقول في مطلعها:
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِي
سَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْ
جَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
يظهر الشاعر ما بداخله ويقول أن الحياة لا قيمة لها، وتظهر اللامبالاة عنده، فتتساوى عنده الأشياء فالفرح يشبه الحزن،واليأس يشبه الأمل،وصوت النعي يشبه صوت البشير،وأن الحياة تعب ومشقة وعناء .
وختم الباحث بحثه بحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وانهى هذا البحث ولخص ما فيه وخرج بقوله أنّ أبا العلاء المعري الشاعر الكبير والفيلسوف الحكيم، كان يعاني من الكآبة وتعددت الأسباب عنده، منها ما كان بسبب الظروف المعيشية وصعوبات الحياة ومنها ما هو بسبب فلسفته، أصيب باكتئاب الفلاسفة والعباقرة، كما أحب أن يسميه بهذا الاسم، فوجد أبا العلاء المعري كان مصاباً بنمط من أنماط الكآبة، فيراه دائم اللوم لنفسه، ناقماً على الأقدار، شاكياً من الحياة وأثقالها، والمطلع على سيرة حياته يدرك ما أقول ويمكنه أن يشخص حالة أبي العلاء المعري مع الكآبة.
وختم بحثه بدعاء الله أن يشفي كل مريض بهذا المرض وغيره من الأمراض، وأن يبعد عنه الهموم والغموم والوباء ويسدد خطاه لما يحب ويرضى